كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْر عَنْ اللَّيْثِ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى الشَّرِيدِ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ أَسِفَاحٌ هِيَ أَمْ نِكَاحٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا سِفَاحٌ وَلَا نِكَاحٌ، قُلْت: فَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْمُتْعَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، قُلْت لَهُ: هَلْ لَهَا مِنْ عِدَّةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ، قُلْت: هَلْ يَتَوَارَثَانِ؟ قَالَ: لَا.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} قَالَ: نَسَخَتْهَا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمُتْعَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا زِنًا؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ وَيُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: ذَلِكَ السِّفَاحُ.
وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ زِنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ النَّقْلِ أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى الزِّنَا قَطُّ.
قِيلَ لَهُ: لَمْ تَكُنْ زِنًا فِي وَقْتِ الْإِبَاحَةِ، فَلَمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ الزِّنَا عَلَيْهَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ»؛ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّحْرِيمُ لَا حَقِيقَةُ الزِّنَا؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ الْمَشْيُ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ»؛ فَأَطْلَقَ اسْمَ الزِّنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ؛ إذْ كَانَ مُحَرَّمًا؛ فَكَذَلِكَ مَنْ أَطْلَقَ اسْمَ الزِّنَا عَلَى الْمُتْعَةِ فَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا نَضْرَةَ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا؛ قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: عَلَى يَدَيَّ دَارَ الْحَدِيثُ، «تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ، فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَانْتَهُوا عَنْ نِكَاحِ هَذِهِ النِّسَاءِ، لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا رَجَمْته فَذَكَرَ عُمَرُ الرَّجْمَ فِي الْمُتْعَةِ؛ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْهَا.
وَقَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، مَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ إلَّا رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى رَحِمَ اللَّهُ بِهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْلَا نَهْيُهُ لَمَا احْتَاجَ إلَى الزِّنَا إلَّا شَقًى.
فَاَلَّذِي حُصِّلَ مِنْ أَقَاوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلُ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لَهَا بِضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَالْمَيْتَةِ تَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ سَنَدِهِ وَقَوْلُهُ أَيْضًا إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ إبَاحَتِهَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْر بْنَ الْأَشَجِّ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كُنْت فِي سَفَرٍ وَمَعِي جَارِيَةٌ لِي وَلِي أَصْحَابٌ فَأَحْلَلْت جَارِيَتِي لِأَصْحَابِي يَسْتَمْتِعُونَ مِنْهَا؟ فَقَالَ: ذَاكَ السِّفَاحُ فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَأَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: {إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَجَلِ فِي التِّلَاوَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَالْأَجَلُ إذًا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَجَلِ لَمَا دَلَّ أَيْضًا عَلَى مُتْعَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا عَلَى الْمَهْرِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ:
فَمَا دَخَلْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ بِمَهْرٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ.
وَفِي فَحَوَى الْآيَةِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ النِّكَاحُ دُونَ الْمُتْعَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى إبَاحَةِ النِّكَاحِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، وَذَلِكَ إبَاحَةٌ لِنِكَاحِ مَنْ عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ النِّكَاحَ مُرَادٌ بِذَلك، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْتِمْتَاعِ بَيَانًا لِحُكْمِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِالنِّكَاحِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ.
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ} وَالْإِحْصَانُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ بِالْمُتْعَةِ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ النِّكَاحَ.
وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فَسَمَّى الزِّنَا سِفَاحًا لِانْتِفَاءِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ عَنْهُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَبَقَاءِ الْفِرَاشِ، إلَى أَنْ يُحْدِثَ لَهُ قَطْعًا؛ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةً فِي الْمُتْعَةِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الزِّنَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ سَمَّاهَا سِفَاحًا ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ إذْ كَانَ الزَّانِي إنَّمَا سُمِّيَ مُسَافِحًا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ وَطْئِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِهِ إلَّا عَلَى سَفْحِ الْمَاءِ بَاطِلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقِ نَسَبٍ بِهِ؛ فَمِنْ حَيْثُ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَحَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَثْبَتَ بِهِ الْإِحْصَانُ اسْمَ السِّفَاحِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِمْتَاعِ هُوَ الْمُتْعَةُ إذْ كَانَتْ فِي مَعْنَى السِّفَاحِ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ النِّكَاحُ.
وقَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} شَرْطٌ فِي الْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْمُتْعَةِ؛ إذْ كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي مَعْنَى السِّفَاحِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَانَ الَّذِي شُهِرَ عَنْهُ إبَاحَةُ الْمُتْعَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ مَعَ ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْهُ إبَاحَتُهَا بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إبَاحَتِهَا، بَلْ دِلَالَاتُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي حَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالدَّمِ وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا لِمُضْطَرٍّ؛ وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ لِلْمُحَرَّمَاتِ لَا تُوجَدُ فِي الْمُتْعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ لِلْمَيْتَةِ وَالدَّمِ هِيَ الَّتِي يَخَافُ مَعَهَا تَلَفَ النَّفْسِ إنْ لَمْ يَأْكُلْ.
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ وَفَقْدِهِ، وَإِذَا لَمْ تَحِلَّ فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ وَالضَّرُورَةِ لَا تَقَعُ إلَيْهَا فَقَدْ ثَبَتَ حَظْرُهَا وَاسْتَحَالَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهَا تَحِلُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، فَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ مُسْتَحِيلٌ؛ وَأَخْلِقْ بِأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهْمًا مِنْ رُوَاتِهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَفْقَهَ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ؛ فَالصَّحِيحُ إذَا مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ حَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا وَحِكَايَةُ مَنْ حَكَى عَنْهُ الرُّجُوعَ عَنْهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَقَصَرَ إبَاحَةَ الْوَطْءِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَحَظَرَ مَا عَدَاهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} وَالْمُتْعَةُ خَارِجَةٌ عَنْهُمَا فَهِيَ إذًا مُحَرَّمَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُسْتَمْتَعُ بِهَا زَوْجَةً وَأَنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ قُصِرَ الْإِبَاحَةُ عَلَيْهِمَا؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الزَّوْجَةِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَيَتَنَاوَلُهَا إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً بِعَقْدِ نِكَاحٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمُتْعَةُ نِكَاحًا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ زَوْجَةً.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ؟ قِيلَ لَهُ: الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: وَهُوَ الْوَطْءُ وَالْعَقْدُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مَقْصُورًا فِي إطْلَاقِهِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ إطْلَاقُهُ فِي الْعَقْدِ مَجَازًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَوَجَدْنَاهُمْ أَطْلَقُوا الِاسْمَ عَلَى عَقْدِ تَزْوِيجٍ مُطْلَقٍ أَنَّهُ نِكَاحٌ وَلَمْ نَجِدِهِمْ أَطْلَقُوا اسْمَ النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ فَلَا يَقُولُونَ إنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ إذَا شَرَطَ التَّمَتُّعَ بِهَا، لَمْ يَجُزْ لَنَا إطْلَاقُ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ؛ إذْ الْمَجَازُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ يَرِدُ بِهِ الشَّرْعُ، فَلَمَّا عَدِمْنَا إطْلَاقَ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ جَمِيعًا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ مَا عَدَا مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا عَادِيًا ظَالِمًا لَنَفْسِهِ مُرْتَكِبًا لِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ لَهُ شَرَائِطُ قَدْ اُخْتُصَّ بِهَا مَتَى فُقِدَتْ لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا؛ مِنْهَا أَنَّ مُضِيَّ الْوَقْتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُ رَفْعَهُ، وَالْمُتْعَةُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا تُوجِبُ رَفْعَ النِّكَاحِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ النِّكَاحَ فِرَاشٌ.
يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، بَلْ لَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ عَلَى فِرَاشِ النِّكَاحِ إلَّا بِاللِّعَانِ؛ وَالْقَائِلُونَ بِالْمُتْعَةِ لَا يُثْبِتُونَ النَّسَبَ مِنْهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا فِرَاشٍ.
وَمِنْهَا أَنَّ الدُّخُولَ بِهَا عَلَى النِّكَاحِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ عِنْدَ الْفُرْقَةِ، وَالْمَوْتُ يُوجِبُ الْعِدَّةَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} وَلَا تَوَارُثَ عِنْدَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ.
فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ النِّكَاحِ الَّتِي يُخْتَصُّ بِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ رِقٌّ أَوْ كُفْرٌ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ؛ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُتْعَةِ مَانِعٌ مِنْ الْمِيرَاثِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِكُفْرٍ أَوْ رِقٍّ وَلَا سَبَبَ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَلَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ مِمَّنْ يَسْتَفْرِشُ وَيَلْحَقُهُ الْأَنْسَابُ لَفِرَاشِهِ، ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ؛ فَإِذَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ نِكَاحًا أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيَّاهَا فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَإِنْ قِيلَ: انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْبَيْنُونَةِ هُوَ الطَّلَاقُ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِصَرِيحِ لَفْظٍ أَوْ كِنَايَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَاقًا وَمَعَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنْ لَا تَبِينَ لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَهِيَ حَائِضٌ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ لَا يَرَوْنَ طَلَاقَ الْحَائِضِ جَائِزًا، فَلَوْ كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ الْوَاقِعَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ طَلَاقًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ فِي حَالِ الْحَيْضِ، فَلَمَّا أَوْقَعُوا الْبَيْنُونَةَ الْوَاقِعَةَ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَهِيَ حَائِضٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَإِنْ كَانَتْ تَبِينُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَلَا سَبَبٍ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ.
فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَفْيِ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ: لَيْسَ انْتِفَاءُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ نِكَاحًا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ وَيَكُونُ نِكَاحُهُ صَحِيحًا، وَالْعَبْدُ لَا يَرِثُ وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ وَلَمْ يُخْرِجْهُ انْتِفَاءُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا.
قِيلَ لَهُ: إنَّ نِكَاحَ الصَّغِيرِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ إذَا صَارَ مِمَّنْ يَسْتَفْرِشُ وَيَتَمَتَّعُ، وَأَنْتَ لَا تُلْحِقُهُ نَسَبَ وَلَدِهَا مَعَ الْوَطْءِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ النَّسَبُ فِي النِّكَاحِ، وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ إنَّمَا لَمْ يَرِثَا لِلرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَهُمَا يَمْنَعَانِ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمُتْعَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَا يَقْطَعُ الْمِيرَاثَ ثُمَّ لَمْ يَرِثْ مَعَ وُجُودِ الْمُتْعَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نِكَاحًا لَأَوْجَبَتْ الْمِيرَاثَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ لَهُ مِنْ قِبَلِهِمَا.
وَأَيْضًا قَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهَا لَيْسَ بِنِكَاحٍ وَلَا سِفَاحٍ؛ فَإِذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ نَفَى عَنْهَا اسْمَ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ نِكَاحًا؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَسْمَاءِ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ، فَإِذَا كَانَ هُوَ الْقَائِلَ بِالْمُتْعَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرَهَا نِكَاحًا وَنَفَى عَنْهَا الِاسْمَ ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ.
وَمِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ»، وَقَالَ فِيهِ غَيْرُ مَالِكٍ: إنَّ عَلِيًّا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إنَّك امْرُؤٌ تَيَّاهٌ، إنَّمَا الْمُتْعَةُ إنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ».